جريمة حيرت المحققين والباحثين
حل المساء في باريس , هناك رجل يقف على الناصية عند مفترق طرق يقلب صفحات
جريدة تحت عمود إنارة , رجل آخر يتطلع إلى أحذية براقة معروضة داخل واجهة
أحد المتاجر , وثالث يتكأ على الحائط نافثا دخان سيجارته إلى الأعلى ...
جميعهم يعتمرون قبعات ومعاطف داكنة قديمة , فنحن هنا في ضواحي باريس حيث
الكادحين والعاطلين . منظر أولئك الرجال بثيابهم المهللة ووجوههم الشاحبة ,
وتلك الأزقة الضيقة بأرضيتها الحجرية الملساء وأعمدة الإنارة الباهتة
تجعلنا نشعر وكأننا أمام مشهد بالأبيض والأسود لفيلم سينمائي قديم مات
مخرجه وجميع ممثليه منذ عهد بعيد .. لكن فجأة تدب الحياة في ذلك المنظر
الكئيب وتتسلل الألوان الزاهية إلى أركانه وتفاصيله بخروج امرأة حسناء من
باب خشبي أنيق تعلوه لافتة صغيرة مكتوب عليها " صالة رقص" .
كانت ترتدي فستانا أخضر وتلف جسدها الممشوق بمعطف أبيض قصير , وتطوق يديها
بقفازات بيضاء , وتتأبط حقيبة صغيرة جميلة , وتنتعل حذاءا براقا ذو كعب
عالي . وكان شعرها مسرحا بعناية وفق أحدث قصات ... في الواقع كانت هيئة تلك
السيدة لا تتوافق أطلاقا مع مفترق الطرق الكئيب ذاك , لا أدري ما الذي أتى
بها إلى هنا , لكنها بدت على عجلة من أمرها , أسرعت الخطى تنهب الأرض نهبا
وهي تعبق الأجواء بأريج عطرها الفواح .
بعد ربع ساعة كانت تنزل السلالم المؤدية إلى إحدى محطات المترو (قطار
الأنفاق) في باريس , ابتاعت تذكرة سفر درجة أولى ثم وقفت بإزاء الرصيف
لبضع دقائق بانتظار القطار الذاهب إلى مركز المدينة , وحين وصل القطار
أخيرا صعدت إلى أولى العربات , وهي العربة المخصصة لمسافري الدرجة الأولى ,
وكانت خالية تماما , أما عربات القطار الأخرى فكانت مكتظة بالمسافرين بشدة
, فالأوضاع الاقتصادية في ذلك الزمان , ونحن هنا نتحدث عن عام 1937 , كانت
بائسة جدا , ليس في باريس وحدها , بل في عموم العالم الذي كان مازال يعاني
من آثار ما يعرف بالكساد الكبير , لذا لم يكن هناك أناس كثيرون , خصوصا من
سكان الضواحي , مستعدون لدفع مبلغ اكبر من أجل الجلوس في بحبوحة الدرجة
الأولى .
كانت عقارب الساعة تشير إلى 6:27 مساءا حين جلست السيدة على أحد مقاعد تلك
العربة الخالية وما لبث أن أنطلق القطار مسرعا إلى محطته التالية والتي كان
الوصول إليها لا يتطلب سوى 45 ثانية .
في المحطة التالية توقف القطار وصعد ستة مسافرين إلى عربة الدرجة الأولى ,
لكن لم تمر سوى ثواني حتى خرجوا منها وهم يصرخون مرعوبين يشيرون بأصابعهم
إلى داخل العربة , فهناك على أحد المقاعد تمددت السيدة ذات الفستان الأخضر
وهي تنزف من رقبتها بشدة جراء طعنة خنجر . وتم نقلها إلى المستشفى على وجه
السرعة لكنها لفظت أنفاسها الأخيرة في الطريق من دون أن تنبس ببنت شفة عن
هوية قاتلها.
صورة لموقع الجريمة
كانت تلك الجريمة هي واحدة من أغرب القضايا التي مرت على شرطة باريس .
فالشهود , ومن ضمنهم موظفي المحطة وبعض ركاب العربة الثانية من القطار ,
أجمعوا على أن العربة الأولى كانت خالية تماما عند صعود السيدة ذات الفستان
الأخضر , وأنها صعدت وجلست بمفردها , وأن جميع نوافذ العربة كانت مغلقة
بأحكام , والباب الذي يفصل بين العربة الأولى والثانية مقفل أيضا بأحكام
ولم يدخل أو يخرج منه أحد بشهادة الشهود ..
كيف أذن تم تنفيذ الجريمة وخلال 45 ثانية وبطعنة واحدة فقط ؟ هل نزل القاتل
من السماء ! .. وأين اختفى ؟!!.
المحير أكثر أن الخنجر المستعمل في الجريمة كان من النوع الصغير , لكن
الطعنة كانت دقيقة بشدة بحيث أنها قطعت وريدا رئيسيا مما يدل على من سدد
تلك الطعنة هو بلا شك قاتل على درجة عالية من الاحتراف.
إنها في الحقيقة من نوع الجرائم المستحيلة , مثل تلك التي نشاهدها في أفلام
جيمس بوند أو مهمات توم كروز المستحيلة . ولهذا فقد أسقط تماما بيد محققي
شرطة باريس , لم يجدوا حلا أو تفسيرا مقنعا لكيفية ارتكاب تلك الجريمة .
كانت هناك نظريات .. منها أن القاتل كان مختبئا داخل العربة أصلا قبل صعود
السيدة .. نعم هذا ممكن , لكن كيف عرف أنها ستصعد بهذا الوقت بالذات وإلى
هذه العربة بالتحديد ؟ .. نحن هنا نتكلم عن قطار مترو وليس قطار عادي ,
وأعتقد الذين ركبوا المترو سابقا يعرفون أنه يتردد كثيرا جيئة وذهابا , كل
بضعة دقائق يمر واحد وليس مثل القطارات العادية , ولهذا من الصعب أن يخمن
المرء الوقت الدقيق لصعود شخص آخر وإلى أي عربة سيصعد . ثم على فرض أن
القاتل كان مختبئ فعلا داخل القطار , فكيف خرج منه بعد أن نفذ جريمته ,
فالنوافذ مغلقة بأحكام ولم يخرج أي أحد من الباب .
القضية معقدة بشدة لدرجة أن البعض ذهبوا إلى الاعتقاد بأن السيدة ماتت
منتحرة وإنها هي من طعنت نفسها بنفسها ! .. لكن كيف لها ان تسدد لنفسها
هكذا طعنة ولماذا في المترو ؟.
محققو باريس عجزوا عن إيجاد تفسير مقنع لكيفية ارتكاب الجريمة لكنهم لم
يعجزوا عن الوصول إلى هوية الضحية .
لاتيسيا تيفو .. امرأة غامضة
كان أسمها لاتيسيا توفو , امرأة إيطالية في الثلاثين من العمر , تسكن باريس
منذ فترة طويلة , كانت متزوجة من رجل فرنسي لمدة ستة أعوام وقد مات زوجها
من دون أن يترك لها فلسا أحمر . وكانت تعمل في مصنع للغراء في ضواحي باريس
الفقيرة .
لكن المحير هو أن هذه الأوصاف لا تتناسب مع هيئة السيدة التي عثر عليها
مقتولة داخل عربة قطار المترو . فملابس هذه السيدة وأناقتها لا تنم عن فقر
, وكيف لامرأة فقيرة أن تستقل قطار الدرجة الأولى بينما جميع من هم
بمستواها محشورون حشرا في عربات الركاب العادية . هناك حتما سر بالموضوع ,
وقد بدأ هذا السر يتكشف رويدا رويدا مع تحقيقات الشرطة المكثفة . إذ سرعان
ما تبين بأن لاتيسيا كانت تعيش حياة مزدوجة غريبة الأطوار .
في النهار هي عاملة مصنع غراء , امرأة عادية بملابس رثة , لكن ما أن يحل
المساء حتى تتحول إلى امرأة أخرى , حتى أسمها يتغير من لاتيسيا إلى
"يولندا" , فترتدي أفخر الثياب وتضع أطيب العطور وتتردد على صالات الرقص في
بعض أسوأ مناطق باريس سمعة .
لكن هل هذا كل ما في الأمر ؟ .. هل كانت مجرد عاهرة ؟ ..
تحقيقات الشرطة توصلت إلى أنها بالفعل كانت تخرج مع العديد من الرجال الذين
تتعرف عليهم في صالة الرقص وتعاشرهم , أحيانا في شقق خاصة , و أحيانا في
غرف الفنادق , وحتى في الحدائق العامة . لكن لا شيء يدل على أنها كانت تفعل
ذلك مقابل المال .
لماذا إذن كانت تفعل ذلك ؟
صالة الرقص او المرقص هو مكان يلتقي فيه الرجال والنساء للتعارف والرقص
التحقيقات السرية في القضية والتي كشف النقاب عنها بعد أعوام طويلة توصلت
إلى أن لاتيسيا كانت تعمل مع مكتب تحقيقات خاص , وعن طريقه كان لها روابط
بالشرطة السرية الفرنسية . وكانت مكلفة بمهمة واحدة لا غير .. اختراق
اللجنة السرية للنشاطات الثورية الفرنسية والتي كانت تعرف بأسم (La
Cagoule) , وهي منظمة إرهابية تتبع لليمين المتطرف الفرنسي أهدافها تتمثل
في مناهضة الشيوعية والاشتراكية والسامية , أما الهدف النهائي فهو إسقاط
الجمهورية الفرنسية والعودة إلى الملكية . وكانت ترتبط بعلاقات وروابط قوية
مع النظام الفاشي في ايطاليا والنازي في ألمانيا .
هذه المنظمة نفذت عدة عمليات اغتيال وتفجيرات في باريس في ثلاثينات القرن
المنصرم , كانت تمتلك عشرات الآلاف من الأعضاء , بمن فيهم سياسيين وضباط
كبار ورجال أعمال وشخصيات مشهورة ونافذة. وكانت المنظمة تستهدف بشكل خاص
رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك , الاشتراكي ليون بلوم .
جون فيلول .. هل هو القاتل ؟
لاتيسيا تمكنت من خلال تواجدها في صالات الرقص وإغوائها للرجال من التسلل
إلى داخل المنظمة , لكن الشكوك بدأت تحوم حولها , ونصبت لها المنظمة مصيدة
, إذ أعطوها معلومة مضللة بأن سيارات محملة بالأسلحة تابعة للمنظمة ستتسلل
إلى داخل فرنسا عبر بلجيكا , وقد بلعت لاتيسيا الطعم وأوصلت المعلومة إلى
الشرطة السرية التي أمسكت بالسيارات على الحدود ليتبين بأنها فارغة . وهكذا
تقرر مصير لاتيسيا . وعلى ما يبدو فأن مهمة تصفيتها قد عهد بها إلى جون
فيلول المسئول عن الاغتيالات لدى المنظمة .
لكن لا أحد يعرف على وجه الدقة هل كان فيليول هو القاتل حقا , فقد هرب إلى
أسبانيا قبيل نشوب الحرب ولم يخضع للمحاكمة أبدا حتى وافته المنية في
سبعينات القرن المنصرم . وهناك من يعتقد بأن الشرطة السرية الفرنسية هي
التي قامت بتصفية لاتيسيا وليس المنظمة وذلك لمعرفتها ببعض الأسرار التي قد
تسبب فضيحة سياسية . فيما يتهم آخرون نظام موسوليني الفاشي في ايطاليا
بقتلها حيث أنها شوهدت تتردد على السفارة الايطالية من حين لآخر وقيل بأنها
كانت جاسوسة مزدوجة للايطاليين والفرنسيين .
أيا من كان القاتل فالظاهر أن الناس فقدوا الاهتمام بالقضية , خصوصا بعد
المعلومات التي نشرتها الصحافة عن حياة لاتيسيا المزدوجة مما جعل الرأي
العام يتغير ضدها . في البداية كان هناك تعاطف كبير معها على اعتبار أنها
امرأة عاملة مسكينة , وكانت هناك مطالب قوية بالعثور على القتلة وتقديمهم
للمحاكمة , لكن لاحقا أصبح الكثير من الناس يقولون بأنها استحقت مصيرها
المشئوم . كما أن الحكومة والشرطة الفرنسية لم تشأ أن تخوض غمار فضيحة
سياسية من اجل مهاجرة ايطالية . أضف إلى ذلك نشوب الحرب العالمية الثانية
واحتلال ألمانيا لفرنسا مما أدى إلى نسيان قضية لاتيسيا تماما لتبقى لغزا
عصيا على الحل إلى يومنا هذا. وأيا من كان قد نفذ الجريمة , فقد نفذها
بحرفية تفوق الخيال في غرابتها وغموضها , مما دفع البعض إلى تسميتها بـ
"الجريمة المستحيلة" .
لم يعرف قاتلها ابدا وذهب دمها هباءا